فصل: قال ابن عطية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال السمرقندي:

ثم وعد لهم النصرة، فقال تعالى: {قاتلوهم يُعَذّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ}، يعني: بالقتل والهزيمة، {وَيُخْزِهِمْ}؛ يعني: ويذلهم بالهزيمة، {وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ}؛ يعني: على قريش، {وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ}؛ يعني: ويفرح قلوب بني خزاعة.
وفي الآية دلالة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، لأن الله تعالى قد وعد المؤمنين على لسان النبي صلى الله عليه وسلم أن يعذب الكفار بأيديهم ويخزهم وينصركم، فأنجز وعده ولم يظهر خلاف ما وعد لهم.
قال الفقيه: حدثنا أبي قال: حدثنا أحمد بن يحيى السمرقندي قال: حدثنا محمد بن الحسن الجوباري قال: حدثنا حماد بن زيد، عن عكرمة قال: لما واعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل مكة، وقد كانت بنو خزاعة حُلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجاهلية، وكانت بنو بكر حلفاء قريش؛ فدخلت بنو خزاعة في صلح رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودخلت بنو بكر في صلح قريش؛ ثم كان بين بني بكر وبين بني خزاعة فقال: فأمدت قريش بني بكر بسلاح وطعام وظلوا عليهم؛ ثم إن قريشًا خافوا أن يكونوا قد نقضوا العهد وغدروا، فقالوا لأبي سفيان: اذهب إلى محمد وجدد العهد، فليس في قوم أطعموا قومًا ما يكون فيه نقض العهد، يعني: الذي أطعم الطعام لا ينقض عليه العهد.
فانطلق أبو سفيان في ذلك، فلما قصد أبو سفيان المدينة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قَدْ جَاءَكُمْ أَبُو سُفْيَانَ وَسَيَرْجِعُ رَاضِيًا بِغَيْرِ قَضَاءِ حَاجَتِهِ».
فلما قدم أبو سفيان المدينة، أتى أبا بكر فقال: يا أبا بكر، جدد الحلف وأصلح بين الناس؛ فقال له أبو بكر: الأمر إلى الله وإلى رسوله.
ثم أتى عمر فقال له نحو ما قال لأبي بكر، فقال له عمر: نقضتم؟ فما كان منه جديدًا فأبلاه الله، وما كان منه متينًا أو شديدًا فقطعه الله تعالى.
فقال له أبو سفيان: ما رأيت كاليوم شاهد عشيرة مثلك، يعني: شاهدًا على هلاك قومه.
ثم أتى فاطمة رضي الله عنها فقال لها: يا فاطمة، هل لك في أمر تسودين فيه نساء قريش؟ ثم قال لها نحو ما قال لأبي بكر وعمر، فقالت: الأمر إلى الله وإلى رسوله.
ثم أتى عليًا فذكر له نحوًا من ذلك، فقال له عليّ: ما رأيت كاليوم رجلًا أضل منك أنت سيد الناس، فجدِّد وأصلح بين الناس.
فضرب أبو سفيان يمينه على يساره وقال: أجرت الناس بعضهم من بعض ثم رجع إلى قومه، فأخبرهم بما صنع فقالوا: ما رأينا كاليوم وافد قوم، والله يا أبا سفيان ما جئنا بصلح فنأمن ولا بحرب؛ فقدم وافد بني خزاعة على النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبره بما صنع القوم ودعاه إلى النصرة، فقال في ذلك شعرًا:
اللَّهُمَّ إنِّي نَاشِدٌ مُحَمَّدا ** حلْفَ أَبِينَا وَأَبِيهِ الأَتْلَدَا

إنَّ قُرَيْشًا أَخْلَفُوكَ المَوْعِدَا ** وَنَقَضُوا ميثَاقَكَ المُؤَكَّدَا

وَزَعَمُوا أَنْ لَسْتَ تَدْعُو أَحَدَا ** وَهُمْ أَذَلُّ وَأَقَلُّ عَدَدا

وَهُمْ أَتُونَا بِالوَتِينِ هجدَا ** نَتْلُو الكِتَابَ رُكَّعًا وَسُجَّدَا

ثَمَّةَ أَسْلَمْنَا وَلَمْ نَنْزعْ بُدَّا ** فَانْصُرْ رَسُولَ الله نَصْرًا أَعْتَدَا

وَابْعَثْ جُنُودَ الله تَأْتِي مَدَدَا ** فِيهِمْ رَسُولُ الله قَدْ تَجَرَّدَا

فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالرحيل وروي في خبر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «والله، لأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا وَالله لأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا».
وقال: «والله لا نُصِرْتُ، إِنْ لَمْ أَنْصُرْكُمْ».
فخرج إلى مكة ومعه عشرة آلاف رجل، ثم رجعنا إلى حديث عكرمة قال: فتجهزوا.
وأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس، حتى نزلوا برمال الظهران، فخرج أبو سفيان من مكة، فرأى النيران والعسكر فقال: ما هذه؟ فقيل: هؤلاء بنو تميم.
فقال: والله هؤلاء أكثر من أهل منًى.
فلما علم أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، تنكَّر وأقبل يقول: دلوني على العباس؛ فأتاه فانطلق به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى أدخله عليه، فقال له: رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يَا أَبَا سُفْيَانَ، أَسْلِمْ تَسْلَمْ».
فقال: كيف أصنع بالَّلات والعزى؟
قال حماد بن زيد: حدثني أبو الخليل، عن سعيد بن جبير أن عمر رضي الله عنه قال وهو خارج من القبة، وفي عنقه السيف: أخر عليهما؛ أما والله لو كنت خارجًا عن القبة ما سألت عنهما أبدًا، قال: من هذا؟ فقالوا: عمر بن الخطاب.
فأسلم أبو سفيان، فانطلق به العباس إلى منزله؛ فلما أصبح، رأى الناس قد تحركوا للوضوء والصلاة، فقال أبو سفيان للعباس: يا أبا الفضل أو أمروا فيَّ بشيء؟ قال: لا، ولكنهم قاموا إلى الصلاة فتوضأ.
ثم انطلق به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصلاة قاموا، فلما كبر كبروا، فلما ركع ركعوا، فلما سجد سجدوا.
فقال أبو سفيان: يا أبا الفضل، ما رأيت كاليوم طاعة قوم، لا فارس الأكارم، ولا الروم ذات القرون.
قال حماد بن زيد، فزعم يزيد بن حازم، عن عكرمة أنه قال: يا أبا الفضل، أصبح ابن أخيك عظيم الملك، فقال له العباس: إنه ليس بملك ولكنه نبوة.
قال: هو ذاك.
وقال حماد: قال أيوب ثم قال: واصباح قريش وقال العباس: يا رسول الله، لو أذنت لي فأتيتهم ودعوتهم، وأمنتهم وجعلت لأبي سفيان شيئًا يذكر به.
قال: «فَافْعَلْ» فركب العباس بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل مكة فنادى: يا أهل مكة أسلموا تسلموا، فقد استبطأتم بأشهب باذل؛ قد جاءكم الزبير من أعلى مكة، وجاء خالد من أسفل مكة.
وخالد وما خالد والزبير وما الزبير.
ثم قال: من أسلم فهو آمن، ومن ألقى سلاحه فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن.
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ظهر عليهم، فآمن الناس جميعًا إلا بني بكر من خزاعة، فقاتلتهم خزاعة إلى نصف النهار، فأنزل الله تعالى: {قاتلوهم يُعَذّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ} وهم خزاعة. اهـ.

.قال الثعلبي:

{قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ الله} يقتلْهم الله: {بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ} يذلّهم بالأسر والقهر {وَيَنْصُرْكُمْ} ويظهركم {عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ} ويبرئ قلوب {قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ} بما كانوا ينالونه من الأذى والمكروه منهم. قال مجاهد والسدي: أراد صدور خزاعة حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم. اهـ.

.قال ابن عطية:

قوله: {قاتلوهم يعذبهم الله} الآية.
قررت الآيات قبلها أفعال الكفرة ثم حضض على القتال مقترنًا بذنوبهم لتنبعث الحمية مع ذلك، ثم جزم الأمر بقتالهم في هذه الآية مقترنًا بوعد وكيد يتضمن النصرة عليهم والظفر بهم، وقوله: {يعذبهم} معناه بالقتل والأسر وذلك كله عذاب، {ويخزهم} معناه يذلهم على ذنوبهم يقال خزي الرجل خزيًا إذا ذل من حيث وقع في عار وأخزاه غيره وخزي خزاية إذا استحيا، وأما قوله: {ويشف صدور قوم مؤمنين} فإن الكلام يحتمل أن يريد جماعة المؤمنين لأن كل ما يهد من الكفر هو شفاء من هم صدور المؤمنين، ويحتمل أن يريد تخصيص قوم من المؤمنين، وروي أنهم خزاعة قاله مجاهد والسدي ووجه تخصيصهم أنهم الذين نقض فيهم العهد ونالتهم الحرب وكان يومئذ في خزاعة مؤمنون كثير، ويقتضي ذلك قول الخزاعي عن المستنصر بالنبي صى الله علي وسلم: [الرجز]
ثُمّتَ أسلمنا فلم تنزع يدا

وفي آخر الرجز:
وقتلونا ركّعًا وسجّدًا

. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {قَاتِلُوهُمْ} أمر.
{يُعَذِّبْهُمُ الله} جوابه. وهو جزم بمعنى المجازاة.
والتقدير: إن تقاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويَشْفِ صدور قوم مؤمنين. اهـ.

.قال الخازن:

قوله سبحانه وتعالى: {قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم} يريد بالتعذيب القتل يعني يقتلهم الله بأيديكم.
فإن قلت: كيف الجمع بين قوله يعذبهم الله بأيديكم وبين قوله وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم؟ قلت: المراد بقوله وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم عذاب الاستئصال يعني وما كان ليستأصلهم بالعذاب جميعًا وأنت فيهم والمراد بقوله: {قاتلوهم}، يعني الذين نقضوا العهد وبدءوا بالقتال فأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بقتال من قاتلهم أو نقض عهدهم.
والفرق بين العذابين، أن عذاب الاستئصال يتعدى إلى المذنب وغير المذنب وإلى المخالف والموافق، وعذاب القتل لا يتعدى إلا إلى المذنب المخالف قوله تعالى: {ويخزهم} يعني ويذلهم بالقهر والأسر وينزل بهم الذل والهوان {وينصركم عليهم} يعني بأن يظفركم بهم {ويشف صدور قوم مؤمنين} يعني ويبرئ داء قلوبهم مما كانوا ينالونه من الأذى منهم ومن المعلوم أن من طال تأذيه من خصمه ثم مكنه الله منه فإنه يفرح بذلك ويعظم سروره ويصير ذلك سببًا لقوة اليقين وثبات العزيمة.
قال مجاهد والسدي: أراد صدور خزاعة حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث أعانت قريش بني بكر على خزاعة حتى قتلوا منهم ثم شفى الله صدور خزاعة من بني بكر حتى أخذوا ثأرهم منهم بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه. اهـ.

.قال أبو السعود:

{قاتلوهم}
تجريدٌ للأمر بالقتال بعد التوبيخِ على تركه ووعدٌ بنصرهم وبتعذيب أعدائِهم وإخزائِهم وتشجيعٌ لهم: {يُعَذّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ} قتلًا وأسرًا {وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ} أي يجعلُكم جميعًا غالبين عليهم أجمعين ولذلك أُخّر عن التعذيب والإخزاء {وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ} ممن لم يشهد القتالَ وهم خُزاعةُ، قال ابن عباس رضي الله عنهما: هم بطونٌ من اليمن وسبإٍ قدِموا مكةَ فأسلموا فلقُوا من أهلها أذىً كثيرًا فبعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكون إليه فقال عليه والسلام: «أبشِروا فإن الفرجَ قريب». اهـ.

.قال الألوسي:

{قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ}
{قاتلوهم} تجريد للأمر بالقتال بعد بيان موجبه على أتم وجه والتوبيخ على تركه ووعد بنصرهم وبتعذيب أعدائهم واخزائهم وتشجيع لهم: {يُعَذّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ} بالقتل {وَيُخْزِهِمْ} ويذلهم بالاسر، وقد يقال: يعذبهم قتلا وأسرًا ويذلهم بذلك {وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ} أي يعجلكم جميعا غالبين عليهم أجمعين ولذلك أخر كما قال بعض المحققين عن التعذيب والاخزاء {وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ} قد تألموا من جهتهم، والمراد بهم أناس من خزاعة حلفائه عليه الصلاة والسلام كما قال عكرمة.
وغيره، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم بطون من اليمن وسبأ قدموا مكة وأسلموا فلقوا من أهلها أذى كثيرًا فبعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكون إليه فقال عليه الصلاة والسلام: «أبشروا فإن الفرج قريب».
وروي عنه رضي الله تعالى عنه أن قوله سبحانه: {أَلاَ تقاتلون} [التوبة: 13] إلخ ترغيب في فتح مكة وأورد عليه أن هذه السورة نزلت بعد الفتح فكيف يتأتى ما ذكر.
وأجيب بأن أولها نزل بعد الفتح وهذا قبله، وفائدة عرض البراءة من عهدهم مع أنه معلوم من قتال الفتح وما وقع فيه من الدلالة على عمومه لكل المشركين ومنعهم من البيت فتذكر ولا تغفل، قيل: ولا يبعد حمل المؤمنين على العموم لأن كل مؤمن يسر بتقل الكفار وهوانهم. اهـ.